اللعبة الكبرى لا تنتهي أبدا: قراءة جيوسياسية لعولمة مفككة

أ.د أسامة بوشماخ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

لن أستطيع أبدًا أن أُوفي حقّ أستاذي البروفيسور محند برقوق بما قدّمه لي من اكتشاف فكريّ ثري. في صميم دراستي للعلوم السياسية، عند تقاطع التاريخ والجيوسياسية والجيوستراتيجيا، عرّفني على مفهوم “اللعبة الكبرى” – ذلك الإطار التحليلي الذي وُلد في القرن التاسع عشر لوصف التنافس الاستراتيجي بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية في آسيا الوسطى. مفهومٌ شهّره رواية Kim لRudyard kipling  في المخيال الغربي، لكنّ تأثيره يتجاوز بكثير الأدب. حتى اليوم، يساعدني هذا المفهوم على فهم ما نعيشه على الساحة الدولية المعاصرة، وخاصة في الشرق الأوسط.

 

في الأصل، دارت “اللعبة الكبرى” بين قوتين إمبراطوريتين على أراضٍ وسيطة، ليس بالمواجهة المباشرة بل عبر تحالفات ونزاعات محلية وعمليات استخباراتية ودعائية. هذه المنطق لم يختفِ، بل تحوّل. فهو اليوم يُشكّل إطارًا لتنافسات متعددة: إيران ضد الولايات المتحدة، إسرائيل ضد المحور الشيعي، روسيا ضد الناتو، الصين ضد النفوذ الغربي. هذه الألعاب تتقاطع وتتصادم، لتُنتج ما أسماه Georges Balandier في ” mise en scène du pouvoir”، حيث تصبح الاستراتيجية ليست تحقيق الاستقرار، بل إدارة الفوضى بشكلٍ مربحٍ ودائم.

 

ساحات الصراع متعددة: غزة، لبنان، البحر الأحمر، العراق، أوكرانيا، الساحل الافريقي، ليبيا، السودان، القوقاز، وحتى الجامعات والمنصات الرقمية والجاليات. لم تعد حربًا على الأرض فحسب، بل حرب نفوذ، سرديات وصور، كما يشرح Gérald Bronner بعمق: في عالمٍ مُشبّع بالمحتوى، لا تُكسب معركة الأفكار بالحقيقة، بل بالسرعة، العاطفة والتبسيط هذه هي آليات ما يُسميه “الحرب المعرفية”: عصرٌ تُنظَّم فيه الثقة العمياء وتنتصر فيه السرديات الثنائية على التحليلات المعقدة.

 

في هذه حرب السرديات، يمتلك بعض الفاعلين أدوات إعلامية هائلة. يُفصِّل Etienne Auger في كتابه “مقالة صغيرة في الدعاية آليات تحويل الرأي إلى يقين، والخطاب إلى عقيدة”. فالسيطرة على الأجندة الإعلامية، واستقطاب المشاعر، وتبسيط الصراعات، أصبحت أسلحةً بقوة الصواريخ والطائرات المسيّرة.

 

ثم هناك الدين. ليس كجوهر للصراع، بل كأداة تبرير وسردية حشد ومرجعية مطلقة. خلال أبحاث عن خطاب داعش، اكتشفت أعمال Mark Juergensmeyer، خاصة كتابه “باسم الله، يقتلون!”، حيث يُبيّن كيف يلجأ بعض الفاعلين في الدين الى العنف المقدس مُضفين عليه شرعيةً روحية. عندما تُبنى مطالب دولة على نصوصٍ توراتية عمرها ثلاثة آلاف عام، أو عندما تُبرّر جماعة مسلحة أعمالها بـ”الشهادة اللاهوتية”، تتحول الحرب إلى فعل ايمان، والسلام إلى خيانة.

 

في هذا السياق، لا ينبغي اختزال المسؤولية في طرفٍ واحد. لكنّ تجاهل قدرة بعض القوى على تشكيل الواقع بالقوة، وفرض رواياتها، وتكريس عنفها بينما تُشيطِن الآخرين، هو خطأ تحليلي فادح. الفوضى التي ندّعي احتواءها هي غالبًا فوضى نُغذّيها – عمدًا أو غير عمد. كباحث في العلوم السياسية، أتبنّى قراءةً واضحةً غير مانوية للأحداث. ما نعيشه ليس صراع خضارات بل اعادة تشكيل عالمي تتداخل فيه الحسابات الاستراتيجية والتلاعبات الرمزية والخرافات الحاضنة. “اللعبة الكبرى مستمرة، لكنها لم تعد معركةً على الأرض فحسب، بل على العقول والسرديات و الذاكرة والايمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى