جامع الجزائر الأعظم.. انتصار الجزائر المسلمة على قلاع التنصير الفرنسي

لقد بنى شارل ألمان لافيجري أكبر ديرٍ في المنطقة، لتنطلق منه حملات التنصير إلى أدغال إفريقيا وأعماقها، قبل أن تهدمه الجزائر بعد استقلالها عن فرنسا، لتشيد مكانه أكبر مسجدٍ في القارة السمراء وثالث أكبر مسجد بعد الحرمين الشريفين.
إن مسجد الجزائر الذي بني في بلدية المحمدية على مشارف خليج الجزائر، يجسد رمزية عميقة وتصحيحا للتاريخ الإسلامي، بل يلخص انقلاب المعادلة الدينية أين تحولت الصلبان إلى أهلة، “فابيضت وجوه واسودت وجوه”: إذ اسودت وجوه أولئك الذين تسموا ب “الآباء البيض” من الذين حاولوا جعل الجزائر أرضا تنطلق منها أبواق التنصير صوب القارة السمراء، لينقلب السحر على الساحر ، فيحل بدل ذلك مسجد عملاق سيكون منارة إسلامية تشع أنواره العالم.
فبعد أن ارتدى هؤلاء “المنصرون” زياً يشبه البرنوس العربي الأمازيغي باللون الأبيض، كي يتشبهوا ويقتربوا من السكان الأصليين، فيتوددوا إليهم لتنطلي على المسلمين حيلتهم التي عبدت الطريق لحملة التنصير في الجزائر، أواخر القرن التاسع عشر خلال الحقبة الاستعمارية، قبل أن ينتشروا في كلّ أرجاء إفريقيا ويصلوا إلى أرض فلسطين والشام.
فـ”الآباء البيض” هم جمعية كاثوليكية تبشيرية فرنسية، أسّسها الكاردينال لافيجري في عام 1868، وتُعرف أيضاً باسم “جمعية مُرسلي إفريقيا”، تهدف إلى نشر النصرانية في القارة الإفريقية.
وعمد زعيم هذه الجمعية، شارلومان لافيجري، وهو أسقف فرنسي، إلى بناء أكبر ديرٍ في المنطقة ليكون بمثابة قاعدة حياة تأوي دعاة الضلالة، تحسبا لإرسالهم في مهام نشر النصرانية عبر إفريقيا.
وتضمّ جمعية “الآباء البيض” بين أعضائها الكهنة والرهبان والقساوسة والمستشرقين، وهي غير مقيّدة بقوانين الرهبنة المعروفة، بل إن قوانينها خاصة وعلى غاية من السرية والكتمان.. لم يكتفوا بنشر المسيحية في إفريقيا فقط، بل امتدّ نشاطهم إلى الشرق الأوسط كذلك، فأنشأوا في فلسطين دير القديسة حنّة في عام 1878، واتخذوه مقراً لهم. كما وصلوا إلى لبنان، فأسّسوا مركزين: واحدا في زحلة عام 1901، وآخر في بيروت عام 1967.
فرنسا تبدأ التنصير بمجزرة “كتشاوة”
احتلت فرنسا، رسمياً، الجزائر العاصمة في 5 جويلية 1830، وركزت جهودها في البداية لبسط سيطرتها على كامل البلاد، عسكرياً وإداريا وسياسيا واقتصاديا، ولذلك فإنّها لم تهتم بنشر التنصير وسط السكان، بخلاف ما كانت تفعله مع مستعمراتها الأخرى.
وكان الحكام الفرنسيون الأوائل للجزائر من العسكريين والضباط السابقين للإمبراطور نابليون بونابرت، وكانوا قد حاربوا الدول الكاثوليكية الكبرى في أوروبا. لذلك، فقد كانت لهم توجسّات كبيرة تجاه الكنيسة الكاثوليكية، وفق ما جاء في كتاب “فرنسا في أرض الإسلام”، للكاتب الفرنسي بيار فيرمن.
وبالمقابل، كان لابد من اضعاف شوكة الإسلام في الجزائر باعتبار أنه كان عاملا يوطد وحدة الشعب الجزائري، وكان المخطط الفرنسي يقضي بتحويل المساجد إلى كنائس، وكانت البداية من مسجد “كتشاوة” بساحة الشهداء بالعاصمة، ففي نوفمبر 1832، أراد القائد الأعلى للقوات الفرنسية الجنرال الدوق” دو روفيغو” هدم الجامع وتحويله إلى كنيسة.
حينها، انتفض سكان العاصمة واعتصم حوالي 4 آلاف مصلٍّ بداخله، دفاعاً عنه، ولم يتوانَ الجنرال بإصدار الأمر لجنوده بمحاصرة المسجد ودكّه بالمدافع، لترتكب فرنسا مجزرة مروعة بعد سحب المعتصمين عنوة إلى “ساحة العنزة” (ساحة الشهداء حالياً)، وإبادتهم جميعاً.
وبسبب الدمار الذي لحق بمبنى المسجد، اكتفت سلطات الاحتلال بتحويله إلى إسطبل في ذلك الوقت. كما اضطرت سلطات الاحتلال إلى إرجاء مشروع نشر النصرانية خوفا من انتفاضة شعبية قد تنهي تواجدهم في الجزائر.
فرنسا والفاتيكان تتفقان على التنصير من منطقة لافيجري
ما هي إلا 6 سنوات حتى عيّن بابا الفاتيكان، غريغوري السادس عشر، الفرنسي أنطوان أدولف دوبيش أسقفاً للجزائر؛ قبل أن يُبنى ديرٌ صغير للرهبان بسطوالي غرب الجزائر العاصمة، سنة 1840، ومن ثم تحويل مسجد كتشاوة إلى كاتدرائية سان فيليب، حيث أُقيمت الصلاة النصرانية الأولى ليلة عيد الميلاد في 24 ديسمبر 1844.
ويستمر أنطوان أدولف دوبيش أسقفاً للجزائر من عام 1838 إلى 1846، قبل أن يلجأ إلى إسبانيا ثم إيطاليا، هرباً من تسديد الديون التي تراكمت عليه من أجل تطوير الكنيسة في الجزائر. فخلفه “لويس أنطوان” أوغيستين فبقي حتى نوفمبر 1866، فدشّن أول كنيسة في مدينة وهران “سانتا كروز” عام 1850، كما بدأ في عهده (1858) بناء كاتدرائية السيدة الإفريقية بالجزائر العاصمة.
وبعد وفاة أوغيستين، عرض حاكم الجزائر الماريشال باتريس دو ماك ماهون، على شارل مارسيال ألمان لافيجري منصب أسقف الجزائر، فقبل العرض من دون تردد. وقد طلبت الحكومة الفرنسية من بابا الفاتيكان توسيع مهام الأسقف الجديد، ليصبح رئيس أساقفة الجزائر، فتمّ ذلك وتسلّم لافيجري منصبه رسمياً في 15 ماي 1867.
لافيجري وجمعية ” الآباء البيض”
ولد شارل مارسيال لافيجري في 31 أكتوبر 1825 بمدينة بايون الفرنسية، وسط عائلة ليبرالية، من دون ميولات دينية محدّدة. ولكن، بحكم أنّ المدرسة الوحيدة التي كانت موجودة بالمنطقة هي كاثوليكية، فقد تلقى الطفل مارسيال تعليمه الابتدائي فيها، فأحبّ التعمّق بدراسة المسيحية. ووصل به حبّ التعمّق إلى أن أصبح كاهناً في عام 1849، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في الأدب عام 1850، وأخرى في “علم اللاهوت” سنة 1853.
عمل لافيجري أستاذاً لمادة تاريخ المسيحية بجامعة “السربون” في العاصمة باريس، ثم انتقل إلى سوريا حيث أنشأ، رفقة أساتذة فرنسيين آخرين، جمعية “عمل مدارس الشرق”، التي أصبحت تُسمى فيما بعد “عمل الشرق”، كما ترأس إدارة تحرير المجلة التي كانت تحمل الاسم نفسه. وكان عمل الجمعية يتمثل في دعم مسيحيّي الشام، ومساعدة الإرساليات التبشيرية المسيحية في المنطقة، من خلال إنشاء مدارس للأطفال وبناء المستشفيات.
إقامته في سوريا ولبنان، سمحت له بالتعرف عن قرب على الإسلام والثقافة العربية عموماً، قبل أن يعود إلى أوروبا سنة 1861، لشغل منصب قاضٍ في محكمة “روث”، إحدى المحاكم القضائية الثلاث للكنيسة الكاثوليكية بروما، ثم عُيّن أسقفاً لمدينة نانسي الفرنسية، في سنة 1863، وأصبح شارل مارسيال لافيجري رئيس أساقفة الجزائر عام 1867، فتفرغ لنشر المسيحية في إفريقيا، وأسّس بعد عام جمعية “الآباء البيض”، ثم مجمع “الراهبات التبشيريات للسيدة الإفريقية” سنة 1869.
وبعدما أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية في 1881، أُنشئ منصب أسقف قرطاج وأوكلت مهمته إلى لافيجري الذي احتفظ في الوقت نفسه بمركزه كرئيس أساقفة الجزائر. وفي العام نفسه، عهد إليه الفاتيكان بمهمة التبشير بالصحراء والسودان (في ذلك الوقت كان اسم السودان يُطلق على دولة مالي الحالية)، ومُنح اللقب الشرفي “رئيس أساقفة إفريقيا”.
وفي يوم 27 مارس 1882، منحه البابا “ليون الثالث عشر” لقب “الكاردينال”، إلى غاية وفاته يوم 26 نوفمبر 1892 بالجزائر العاصمة. ويشير المؤرخون أن الأسقفان الأولان للجزائر لم يهتما كثيراً بنشر المسيحية، بل كان اهتمامهما الرئيسي يتمثل في توفير ظروف الحياة الروحية للمستوطنين الأوروبيين الذين كانوا يتوافدون إلى الجزائر بمئات الآلاف سنوياً ضمن الحملة الاستعمارية الفرنسية، وكان معظمهم مسيحيين.
هكذا أوصى الكاردينال لافيجري أتباعه..
وبخلاف سابقيه، فإن شارل مارسيال لافيجري ركزّ كثيراً على التبشير، فأسّس جمعية “الآباء البيض” واتخذ مقرّها في هضبة صغيرة عند مصب وادي الحراش على البحر الأبيض المتوسط، بالضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث بنى الدير التي كان يدرس ويعيش فيها الرهبان.
كانت المهمة الرئيسية لـ”الآباء البيض” و”الأخوات البيض” نشر المسيحية وسط الأهالي، أي السكان الأصليين للبلاد. وقد وضع لافيجري الرهبان والراهبات، الذين يعملون في الإرساليات التبشيرية، أمام 3 تحديات، وهي: “التحدث بلغة القوم سواء العربية أو الأمازيغية، وارتداء لباسهم وأكل طعامهم.
وعلى هذا الأساس، فقد ارتدى رهبان هذه الجمعية التبشيرية الجديدة اللباس العربي الأمازيغي، المتمثل في “القندورة” و”البرنوس” و”الشاشية”، مع وضع “مسبحة” حول العنق على شكل قلادة كعلامةٍ دينية. وكان عمل الآباء البيض يتمثل في القيام بالأعمال الخيرية لسكان الجزائر، بهدف كسب ودّهم. فبنوا المستوصفات الطبية والمدارس التعليمية ودور الأيتام، كما طوّروا الزراعة، وصبّوا اهتمامهم بشكلٍ أكبر على الاعتناء بالأطفال اليتامى وتربيتهم.
وتزامن بداية نشاط جمعية الآباء البيض مع المجاعة ووباء “الكوليرا”، اللذين ضربا العديد من المدن الساحلية الجزائرية وخلّفا نحو 100 ألف ضحية، وعشرات الآلاف من الأطفال اليتامى، ما سهّل من عمل جمعية لافيجري فيما يخصّ تربية اليتامى على الديانة المسيحية. وبحسب المؤرخين، فإنّ لافيجري، لما قبل منصب رئيس أساقفة الجزائر، كتب رسالة لأحد أصدقائه يقول فيها: “الجزائر ليست سوى باب مفتوح أمام قارة”. ولذلك فقد قام “الآباء البيض” سنة 1876، انطلاقاً من بلدة متليلي بالصحراء الجزائرية، بإرسال قافلة من 3 أفراد نحو مدينة تمب،كتو المالية، لكنهم فشلوا أمام مقاومة ورفض رجال “الطوارق”.
وبعد مرور سنتين، أي في 1878، وصلت قافلة تضمّ عدداً كبيراً من “الآباء البيض” إلى ميناء مدينة مومباسا الكينية في الساحل الشرقي لإفريقيا، ثم وصلت بعد 3 أشهر من السير على الأقدام إلى ضفاف بحيرة فيكتوريا بأوغندا. وتبعتها قوافل أخرى بعدة مناطق إفريقية، حتى أصبح العدد عند وفاة الكاردينال لافيجري في سنة 1892، نحو 278 إرسالية تبشيرية من “الآباء البيض” وحدهم، موزّعين على 5 جنسيات مختلفة، ويمارسون مهامهم في 6 بلدان إفريقية من بينها: الجزائر، وتونس، وأوغندا، والكونغو.
جامع الجزائر تصالح مع الماضي وقطيعة مع المستعمر الفرنسي
لقد شكل دير لافيجري رمزا لمحاربة الهوية العربية الإسلامية للجزائر، ونقطة انطلاق نحو نشر النصرانية في إفريقيا، لذلك أول ما فعلته السلطات الجزائرية بعد نيل الاستقلال عن فرنسا عام 1962، هو تحويل الدير الكبير للآباء البيض في الحراش إلى مدرسة لتعليم صغار الصم والبكم، مع تغيير إسم المنطقة من لافيجري إلى “المحمدية” نسبة لسيد الخلق محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، لتشكل قطيعة مع الماضي الاستعماري. لاحقاً، تم هدم الدير نهائيا لبناء جامع الجزائر الأعظم مكانه، والذي تشاهد منارته من كل أنحاء العاصمة وضواحيها، كما تعد أول ما يراه زوار الجزائر عبر البحر المتوسط.
[بطاقة فنية لجامع الجزائر]تبلغ مساحة جامع الجزائر الأعظم الإجمالية 400 ألف متر مربع، بينما شيد الجامع على مساحة 200 ألف متر مربع، ويتسع لـ120 ألف مصل، فيما يبلغ ارتفاع مئذنته نحو 265 مترا. ويحتوي على قاعة صلاة كبيرة تتربع على مساحة 20 ألف متر مربع وتتسع لأزيد من 120.000 مصل زينت بشكل بديع وتحتوي على دعائم رخامية مميزة ومحراب كبير تم انجازه من الرخام والجبس المتعدد الألوان، يكسوها سجاد باللون الأزرق الفيروزي مع رسوم زهرية مستوحاة من طبوع الزخرفة الجزائرية.
ويضم هذا الصرح أكبر مئذنة في العالم يفوق علوها 265 مترا ودعائم بعمق 60 مترا، وتتشكل المئذنة من 43 طابقا خصص 15 منها كفضاء لاحتضان متحف يخص تاريخ الجزائر و 10 طوابق كمركز للبحوث، بالإضافة إلى محلات تجارية.كما يضم 12 مبنى آخر، يشمل مكتبة تتضمن مليون كتاب، وقاعة محاضرات، ومتحفا للفن والتاريخ الإسلامي، ومدرسة عليا للعلوم الإسلامية لطلاب الدكتوراه.
ويحتضن الجامع أيضا المدرسة الوطنية العليا للعلوم الإسلامية “دار القرآن” بطاقة استيعاب تقدر ب 1500 مقعد موجهة للطلبة الجزائريين والأجانب لما بعد التدرج في العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية وتحتوي على قاعات لإلقاء الدروس وقاعة متعددة الوسائط وقاعة للمحاضرات وكذا إقامة داخلية.
كما يشمل الجامع على بنايات أخرى، على غرار مركز ثقافي يحتوي بهوا للعرض ومكتبة تستوعب مليون كتاب، إلى جانب فضاء مخصص لنزول المروحيات وحظيرة للسيارات تتسع ل 4.000 سيارة مبنية على طابقين اثنين في الطابق السفلي لساحة كبيرة تحيط بها عدة حدائق وأحواض. يضم المسجد قاعة صلاة بمساحة 20 ألف متر مربع،
وبدأت أشغال بناء هذا الصرح الديني الكبير في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة سنة 2012، قبل أن يدشنه رسميا الرئيس عبد المجيد تبون يوم 25 فبراير 2024، وأقيمت باه أول صلاة جمعة يوم الفاتح مارس 2024.
أنس الحسني